أيتها الأرثوذكسية..تعصفُ بكِ أهوجُ العواصف..وتحاربكِ اشرسُ القوات المظلمة لاقتلاعكِ من العالم..وانتزاعكِ من قلوب الناس..ارادوكِ أملاً مفقوداً..ومتحفاً مهجوراً..وماضياً مأساوياً..وتاريخاً منسياً..لكن الله القدير الكلي الحكمة يسيطر على هذه الفوضى ويحميكِ منها وردة مفتحة تفوح بعطرها ارجاء المسكونة..ويحافظ عليكِ في قلوب البسطاء..وها انتِ كما أنتِ حيَّة قوية تغذين الاجيال وتفلحين كل بقعة جرداء..وتزرعين الأمل في نفوس الضعفاء..وتباركين الحاقدين والأعداء..وتوزعين قوة وحياة ونوراً..وتفتحين للناس ابواب الابدية..قوية عتيدة ايتها الارثوذكسية  
 الصفحة الرئيسية > مقالات > دينية وقصصية
الميـلاد هو تجسـد الإلـه                                                                      المطران سلوان موسي / من كتاب سر التجسد

إذا كان من أمر جديد على وجه البسيطة يستحق على مر العصور أن يُسمى جديداً، فهو سر شخص يسوع المسيح شخص الإله المتجسد، يتعجب بولس الرسول أمام هذا السر فيقول: "عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (1تم 16:3)، فعظمة السر تكمن في أن الابن وهو إله، قد صار إنساناً، وما زال عن كونه إلهاً باقياً إلى الأبد ما هو منذ البدء.

تجسد الله هو أعجوبة تفوق أية أعجوبة أمكن تحقيقها، فالهوة السحيقة التي كانت تفصل بين السماء والأرض قد رُدمت بتجسد الله، ووُجدت بشخص المخلص مبدأ وحدتها، فالسر المكتوم منذ الدهور ومنذ الأجيال هو سر المسيح، سر اتحاد الطبيعتين الإلهية والبشرية في شخص المسيح، لا شك أن تجسد الله كان نتيجة محبة الله العظمى للإنسان، فتجسده يُظهر محبة الإنسان أعظم من المحبة التي أظهرها في خلق العالم.

فالدافع التقليدي لتجسد المخلص، هو أن الله بشخص يسوع المسيح قد أعطى ذاته كلياً للإنسان بطريقة سرية وإلهية، حتى يستطيع الإنسان الذي تقزّم بالخطيئة أن يستعيد عافيته وينهض ويصير لا متناهياً في الله، فينمو في الله إلى بلوغ ملء الإنسان الحقيقي، فالمخلص الذي جبل الإنسان من العدم، هو الوحيد الذي يمكنه أن يمنح طبيعتنا الساقطة عدم الفساد، وهو صورة الآب، وهو الوحيد الذي يمكنه أن يجدد صورة الله في الإنسان وهو "الحياة" بكل معنى الكلمة، والوحيد الذي يمكنه أن يمنح الطبيعة المائتة عدم الموت أي "الخلود"، فهو الابن الوحيد للآب، وهو الوحيد الذي يمكنه أن يمنح الإنسان معرفة الآب وإبطال عبادة الأوثان.

ألم يكن باستطاعة الله أن يخلص الإنسان بكلمة فقط دون الحاجة إلى أن يتجسد؟..

يجيب القديس أثناسيوس الكبير ويقول: "الأمر لا يتعلق بمقدرة الله، فهو كلي القدرة، ولكن بما هو مفيد للإنسان، فالله في سابق عنايته للإنسان ابتكر أن يتجسد عوض أن يُصدر أمراً، لأن الإنسان يتشجع بالعفو والصفح الذي يحصل عليه فيعود بسرعة إلى الخطيئة، مما يتطلب من مسامحته من جديد، وهكذا دواليك فيعتاد على هذا النحو على ممارسة الخطيئة فصير من سيء إلى أسوأ، فعلى الرغم من حصوله على الغفران كل مرة فإن اعتياده على ممارسة الخطيئة وعدم الإقلاع عنها يجعله اسيراً ابدا للخطيئة ولنتائجها المضرة".

كان بإمكان الابن أن يظهر دون تجسده، كما فعل سابقاً مع إبراهيم ويعقوب وآخرين غيرهم، لكنه رغب أن تدخل الطبيعة البشرية الساقطة في حرب ضد عدوها وتحرز الانتصار بنفسها، فالتجسد كان أيضاً نتيجة مطالبة الجنس البشري الرازح تحت وطأة الخطيئة والشر.

على الرغم من أن الإنسان قد خُلق لبلوغ أقصى الكمال، إلا أنه في واقع الخطيئة لا يملك القوة ولا الإمكانية ولا السلطة ولا المعرفة الضرورية لتخليص  نفسه من الخطيئة والموت، فخلاص الإنسان أمكن تحقيقه فقط بالله خالقه.

لقد ساد بين آباء الكنيسة وكتابها الكنسيين، أن دوافع تجسد المخلص هي سقوط الإنسان في الخطيئة، وقد تبنّت الكنيسة هذا الرأي في أوساطها كافة لأسباب رعائية وتربوية.

ولكن ظهر أيضاً رأي آخر لا يتناقض مع الأول، ولكنه يضع التجسد في إطار أوسع، الذي عُرف في الأوساط اللاهوتية "بالدافع المطلق" للتجسد، أي أن ابن الله كان سيتجسد بغض النظر عما كان سيحصل للإنسان، تجسده لم يكن مرهوناً بعوامل سلبية من قبل الخليقة، فهو أمر مقرر أزلياً، وقد عبّر عن هذا الرأي كل من القديس مكسيموس المعترف، وغريغوريوس بالاماس، ونيقولاوس كاباسيلاس، هذا مع العلم أن هؤلاء جميعاً اخذوا بالطرح الأول وعرضوا الثاني في الوقت نفسه.

فبالمسبة للقديس مكسيموس، قال سر المسيح ليس سوى المسيح نفسه، والسر العظيم والمكتوم هو بالضبط وحدة الطبيعتين الإلهية والإنسانية في شخص المسيح، الذي من أجل هذه الوحدة والاتحاد خُلق العالم.

أما المعرفة السابقة منذ الأزل لسر المسيح، فهي المعرفة السابقة التي لدى الثالوث حول سر المسيح.

ومما تتألف المعرفة السابقة على صعيد الثالوث؟..

هي بآن معاً رضى الآب، فعلُ الابن ومساهمة الروح القدس، وهي تستند إلى وحدة الجوهر أو الطبيعة الإلهية، ووحدة المعرفة للثالوث وقوة الوحدة، فلا الآب ولا الروح كانا يجهلان تجسد الابن، لأنه في الابن الفاعل كان الآب والروح حاضرين بالجوهر، مشاركين دون أن يتجسدا، الآب برضاه والروح بالمساهمة.

وماذا يعني أن يكون لدى الإنسان معرفة مسبقة بشأن هذا السر؟..

الجواب لا يتعلق به كإله، ولكن كإنسان، أي كانت لديه معرفة مسبقة بتدبير التجسد.

هكذا، فإنه بحسب القديس مكسيموس كان تجسد الابن سيحصل بغض النظر عن سقوط الإنسان، لأن التجسد كان العلة الأولى، والغاية الأخيرة لخلق العالم، عمل الثالوث، مقرراً منه أزلياً ومعروف منه مسبقاً.

أما القديس غريغوريوس بالاماس، فيعرض لهذا الدافع أيضاً، فهو يعتبر أن سر التجسد هو أمر مقرر لدى الله منذ الأزل وقد وصلتنا معرفة إرادة الله التي قبل الأزل من اجلنا، عندما أراد أن يتجسد ابن الله لفائق محبته للبشر.

خُلق العالم منذ البدء لأجل هذا السر، وخُلق الإنسان منذ البدء على صورة الله حتى يستطيع أن يحوي يوماً ما "مثاله" المسيح، ولهذا اُعطي الناموس في الفردوس، واتت في الخط عينه كل أعمال الله وشرائعه، حتى طغمات الملائكة خُلقت لتخدم هذا السر، وقد عبّر بولس الرسول عن هذه الحقيقة بقوله: "انه فيه خُلق الكل، ما في السموات وما على الارض، ما يُرى وما لا يُرى، سواءً كان عروشاً او سيادات ام رئاسات، الكل به وله قد خُلق" (لول 16:1). فكل الخليقة العقلية والمادية، وكل العمل الخلاصي في العالم قبل المسيح، كلها تقع في خط حضور المسيح، الإله- الإنسان، الحضور المقرر مسبقاً من الله.

أما القديس نيقولاوس كاباسيلاس، فيعتبر أن الكتاب اُعطي، والأنبياء اُرسلوا من الله لأن كلمة الله مزمع أن يتجسد في العالم، فتجسد المسيح لا يشكل فقط غاية الكتاب، ولكن علة الخليقة كلها وغايتها، التي خُلقت من منظار حضور الكلمة وتجسده.

الله وحده يحوي علة الكائنات وغايتها، فهو علتها الخالقة وغايتها الأخيرة، فالله عندما يخلق يتطلع إلى نهاية عمله الخالق وغايته، وليست هذه الغاية والنهاية خارجة عنه، فهو غاية الخليقة كلها، والله لا يخلق فحسب ولكن يخلق "بشكل حسن جداً" مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكائنات تتطور كينونتها من الحسن إلى الأحسن في مسيرتها نحو غايتها، بحسب تعبير القديس مكسيموس المعترف.

ويميز كاباسيلاس على هذا الصعيد بين ثلاثة نماذج من البشر:

النموذج الأول: هو النموذج غير الكامل، وهو نموذج آدم القديم الرازح تحت الخطيئة.

النموذج الثاني: هو النموذج الكامل، ويتمثل بالعذراء والدة الإله.

النموذج الثالث: وهو نموذج الإله- الإنسان "المثال" الذي هو يسوع المسيح، فالله خلق آدم آخذاً نموذجاً المثال الذي هو يسوع المسيح، إلا أن آدم في أول حركة له نحو المثال أخطأ المسار، واظهر في التاريخ عدم كمال الطبيعة البشرية، لكن العذراء أظهرت في تاريخ البشرية الساقطة تحقيق النموذج الكامل في شخصها، فقد أظهرت العذراء في نفسها الطبيعة البشرية نقية وكاملة، كما كان عليها أن تكون من تلقاء نفسها، طبيعة تنمو في الخير والفضيلة، وهكذا جعلت ممكناً اتحاد الطبيعتين البشرية والإلهية في شخص كلمة الله، واتى ظهور المثال في الزمن آخر الكل، فما ظهر قبل هو عبارة عن مسيرة نحو تجسد الكلمة، وضمن هذه المسيرة تُحشد كل الأمور في العهد القديم من كتاب، ناموس، رموز، صور...كل الأمور أخذت معناها مما حصل في آخر المسيرة، بتجسد الكلمة، باتحاد الطبيعة المخلوقة والطبيعة الخالقة، بتحقيق الغاية الأخيرة للخلق والتاريخ.

وهكذا تمكن كاباسيلاس من الجمع بين دافع التجسد المطلق، وبين مسيرة الخليقة والتاريخ في نموها ضمن التدبير الإلهي، هذا بغض النظر عن أية عوامل سلبية ظهرت في التاريخ.

 

كيفية تجسد المخلص:

ولكن كيف تم تجسد المخلص؟..

وهل باتخاذه الكبيعة البشرية زاد عدد أشخاص الثالوث القدوس من ثلاثة إلى أربعة؟..

بالطبع لا، إذ لا بد من التوضيح أن الطبيعة الإلهية الواحدة للاقانيم الثلاثة (الآب، والابن، والروح القدس) لم تتجسد، احد الاقانيم الثلاثة وهو الأقنوم الثاني (الابن) هو الذي تجسد، بالتجسد صار الابن حاملاً للطبيعتين الإلهية والإنسانية واتحادهما في شخصه، شخص الابن- الكلمة، إذن ما من زيادة في عدد الاقانيم في الثالوث من جراء تجسد الابن، فالثالوث بقي ثالوثاً بعد التجسد، كما يشرح القديس يوحنا الدمشقي.

هناك حقيقتان تمسان مريم العذراء من خلال التجسد.

الأولى: أنها دائمة البتولية.

الثانية: أنها والدة الإله.

أما البتولية فقد أعلنها العهد القديم وثبتتها أحداث العهد الجديد: "هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وُيدعى اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا" (اشعياء 14:7) و (متى 23:1). أما موسى معاين الله، فقد كشف له الله الكثير من حقائق العهد الجديد، فهو رأى رمزياً في العليقة غير الملتهبة شخص العذراء التي تلد كلمة الله وهي عذراء وستبقى كذلك (خروج 1:3-8)، وفي رؤياه عن المدينة أن "باب المقدس الخارجي المتجه للشرق يكون مغلقاً لا يُفتح ولا يدخل منه إنسان لأن الرب اله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقاً" (حزقيال 1:44-3)، ويشير حزقيال أيضاً إلى بتولية العذراء ليس فقط قبل الولادة ولكن أثناء الولادة وبعدها، ورُبَّ سائل يقول:

أين نجد في الكتاب المقدس أن العذراء دُعيت والدة الإله؟..

ويجيب القديس كيرللس الاسكندري فيقول: لنسمع ماذا يقول الملاك للرعاة: "اليوم وُلد لكم مخلص وهو المسيح الرب" (لوقا 11:2)، ولم يقل الملاك "سيكون الرب" أو "فيه سيسكن الرب" بل قال : "هو الرب"، ومن الواضح إذن أن الملاك يُسمي المولود "رباً". وبطرس أيضاً على غرار الملاك يعترف عند كورنيليوس: "الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل يبشر بالسلام بيسوع المسيح، هذا هو رب الكل" (أعمال 36:10).

بشارة الخلاص حصلت بيسوع المسيح، والرسول بطرس يُظهر أن يسوع هو رب الكل، وبالتالي فإن مَنْ ولدت الرب هي لا شك والدة الإله، أي أن العذراء هي والدة الإله.

لقد أوضح الملاك يوم البشارة للعذراء أنها ستلد ابن الله، وأليصابات إذ امتلأت من الروح القدس فنادت والدة الإله بـ"أم ربي"، مما يُظهر جلياً أن تسمية "والدة الإله" هي مُلهمة من الروح القدس، والرسول بولس يشهد أيضاً: "وأرسل الله ابنه مولوداً من امرأة" (غلاطية 4:4)، ويُعلق القديس يوحنا الدمشقي فيقول: لم يقل الرسول "بامرأة" بل قال "من امرأة"، وهكذا برهن الرسول أن ابن الله الوحيد وهو إله، هو نفسه قد صار إنساناً، دون أن يكون قد أتى ليسكن في إنسان مخلوق سابقاً، بل هو نفسه صار إنساناً بحسب الطبيعة البشرية، أي انه ضمَّ إلى أقنومه بَشرة حية ذي نفس عاقلة ناطقة، وصار هو لها شخصاً هذا ما تعنيه عبارة "مولود من امرأة"، لذا لنا الحق أن ندعو مريم "والدة الإله" بالحقيقة لأن هذا الاسم يحوي سر التدبير الخلاصي، لأنه إن كانت الوالدة أم الله، فإن المولود منها لا بد أن يكون إلهاً، وانه لا شك إنساناً أيضاً، إذ كيف يُعقل أن يولد الله من امرأة ولا يصير إنساناً؟..

إذن ابن الإنسان هو بالطبع إنسان، ولما كان المولود من امرأة هو الله نفسه، وهو بالطبع المولود من الله الآب بحسب الطبيعة الإلهية قبل الأزل، هو أيضاً مولود من العذراء في هذه الأيام الأخيرة بحسب الطبيعة التي لها بداية وتخضع للزمن، أي بحسب الطبيعة البشرية.

هذه الحقيقة أيضا سبق وعبر عنها بولس الرسول فقال: "الله ظهر في الجسد" (1تم 16:3)، اخذ الرب يسوع جسداً من العذراء مريم، وهذا معناه أن العذراء ولدت الإله المتجسد، ويقول أيضاً: "منهم (الإسرائيليين) حسب الجسد، المسيح الكائن على الكل الهاً" (رومية 5:9)، فلا يمكن أن تكون التي ولدته إلا والدة الإله.

 

طريقة الحبل بالمخلص:

تجسد ابن الله، المولود من الله قبل الدهور، في هذه الأيام الأخيرة، على حد تعبير القديس افرام السوري، ليولد من العذراء بطريقة يعرفها هو، حُبل به من غير زرع وبطريقة يتعذر وصفها، محافظاً على بتوليتها، لأنه حيث يشاء الله يُغلب نظام الطبيعة، الله- الكلمة بقي في حشا العذراء نفسها، ونار لاهوته لم تحرق مستودعها، بل حفظها طيلة فترة حبلها به، خلال الأشهر التسعة، أقام في حشاها دون أن يزدري الطبيعة الساقطة، وخرج منها إلهاً متجسداً ليخلصنا.

ويوضح القديس كيرللس الاسكندري ان الله- الكلمة سكن في العذراء جوهرياً وحقيقة، وليس انه كان فيها شكلياً بطريقة منظورة، فالعذراء هي بالحقيقة والدة الإله لأنها ولدت "جسدياً"، وبحسب الجسد، الله الذي اتحد بالجسد.

لم يتكون في حشا البتول ابن الله، قوة الآب الاقنومية، من إرادة بشرية أو من إرادة رجل، أي بجماع وبزرع، ولكن برضى الآب ومساهمة الروح القدس، أما مساهمة العذراء فهي أن ابن الله والإله اخذ جسداً وصار إنساناً من جسدها ومن دمها الطاهرين البريئين من العيب، فإنه منها وُلد ابن الله والإله المتجسد، ليس إنسانا متألهاً، ولكن إلهاً متجسداً، مُسح ليس كما يمسح الأنبياء بمسح اليد، ولكن بحضور كلي لذاك الذي يمسح بحيث أن ذاك الذي يمسح صار إنساناً، والذي مُسح صار إلهاً ليس من جراء تبادل الطبائع ولكن باتحاد اقنومي، لأنه واحد وهو نفسه الذي مسح والذي مُسح، لأنه كإله أعطى المسحة لنفسه كإنسان، فكيف لا تكون والدة الإله التي وُلد منها الإله المتجسد، والتي ظهرت أمَة وأمّاً للخالق، والدة الله حقيقة، السيدة على كل الخلائق.

بعد أن أعطت العذراء موافقتها ورضاها على كلام الرب الذي حمله إليها الملاك، نزل الروح القدس عليها، منقياً إياها ومعطياً إياها القوة لتستقبل ألوهة الكلمة، وأيضاً القوة لتلد، ساعتها ظللها كبذرة إلهية، حكمة الإله العلي وقوته الاقنومية وكونت جسداً من دمها الكلي القداسة والنقاوة، جسداً حياً ذا نفس عاقلة ناطقة، باكورة عجنتنا، لم يحصل هذا الزرع، ولكن عن طريق الخلق بنعمة الروح القدس.

وأما الشكل الإنساني فلم يحصل بنعمة تدريجية، بل بإنجاز آني، على الفور، فإن الله- الكلمة نفسه صار اقنوماً (شخصاً) لجسده، لأن كلمة الله لم يتحد بجسد كان له أقنومه المستقل (أي كان جسد شخص آخر)، لكنه أتى إلى حشا العذراء باقنومه الخاص، الكلمة نفسه صار  اقنوم هذا الجسد، بحيث أن هذا الجسد نفسه، مذ تكوّن، كان جسد الله- الكلمة، تحييه نفس ناطقة.

 

شخص المخلص:

ويتابع الدمشقي: لا نتحدثن إذن عن إنسان متأله، بل عن اله صار إنساناً، لأن ذاك الذي هو بطبيعة إله تام، صار إنساناً دون أن يغير طبيعته ولا يتظاهر بتحقيق التدبير الإلهي، لقد قام بذلك باتحاده اقنومياً، دون تشوش ولا استحالة ولا انفصال بالجسد الذي أخذه على عاتقه من العذراء، جسد حي دون أن يغير طبيعة ألوهته إلى مادة جسده، أو طبيعة جسده إلى طبيعة ألوهته، ودون أن يخترع طبيعة مركبة من طبيعته الإلهية وطبيعته الإنسانية التي أخذها على عاتقه.

فالعذراء مريم لم تلد المسيح بحسب ألوهته، ولم تعط الكيان والوجود لألوهته، لأن ألوهته أبدية لا ابتداء فيها، لكنها ولدته بحسب ناسوته (طبيعته الإنسانية)، والمولود منها منذ تكوينه في حشاها وفي ولادته، كان وسيبقى الله حقيقة، كإله حق اتحد الطبيعة البشرية التي أخذها من العذراء منذ لحظة حبلها به من الروح القدس، بشخصه الإلهي، باقنومه، وصار جسده جسد الله- الكلمة، وبقي بالتجسد وبحسبه، هو هو الأقنوم الثاني للثالوث القدوس، شخصاً غير متغير، الله- الكلمة، وعليه يستنتج الدمشقي انه لهذا السبب تُدعى مريم العذراء بعد ولادتها المسيح أم الله، وبقيت هكذا على الدوام. 

 

                                       

 

الصفحة الرئيسية  |  الكنيسة  |  آبائيات  |  دينيات  |  مقالات  |  نشاطات  |  معلومات  |  أماكن مقدسة  |  خريطة الموقع  |  أتصل بنا
© 2006-2009 الأب الكسندروس اسد. جميع الحقوق محفوظة - تصميم وتطوير اسد للتصميم